الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (24): {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)}فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ} عطف على المحرمات والمذكورات قبل. والتحصن: التمنع، ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي لتمنعكم، ومنه الحصان للفرس بكسر الحاء لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء: المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك. وحصنت المرأة تحصن فهي حصان، مثل جبنت فهي جبان.وقال حسان في عائشة رضي الله عنها:والمصدر الحصانة بفتح الحاء والحصن كالعلم. فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج، يقال: امرأة محصنة أي متزوجة، ومحصنة أي حرة، ومنه: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}. ومحصنة أي عفيفة، قال الله تعالى: {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ} وقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ}. ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة، أي ممتنعة من الفسق، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} أي الحرائر، وكان عرف الإماء في الجاهلية الزنى، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بايعته: «وهل تزني الحرة؟» والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره، فبناء (ح ص ن) معناه المنع كما بينا. وستعمل الإحصان في الإسلام، لأنه حافظ ومانع، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الايمان قيد الفتك». ومنه قول الهذلي: وقال الشاعر: ومنه قول سحيم: الثانية: إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة، وقال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وقال به أشهب. يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وطئ المسبيات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. واختلفوا في استبرائها بما ذا يكون، فقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستبرءون المسبية بحيضة، وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض». ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا حتى يقال أن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة الإماء، على ما نقل عن الحسن بن صالح قال: عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب. وكافه العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة واحدة. والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين.وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا علي نكاحهما، فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه، لأنه قد صار له عهد وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها، وهو قول أبي حنيفة والثوري، وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك. والصحيح الأول، لما ذكرناه، ولان الله تعالى قال: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} فأحال على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا، إلا ما خصه الدليل.وفي الآية قول ثان قاله عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة: أن المراد بالآية ذوات الأزواج، أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الامة ذات الزوج فإن بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها. قال ابن مسعود: فإذا بيعت الامة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية، كل ذلك موجب للفرقة بينها وبين زوجها. قالوا: وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الامة طلاقا لها، لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين.قلت: وهذا يرده حديث بريرة، لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت ذات زوج، وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الامة ليس طلاقها، وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث، وألا طلاق لها إلا الطلاق. وقد احتج بعضهم بعموم قوله: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وقياسا على المسبيات. وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده، وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى.وفي الآية قول ثالث- روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين.وقال علي بن أبي طالب: ذوات الأزواج من المشركين.وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ} هن ذوات الأزواج، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف، أي كل النساء حرام. وألبسهن اسم الإحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك. {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} قالوا: معناه بنكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى، وهذا قول حسن. وقد قال ابن عباس: {الْمُحْصَناتُ} العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب. قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها. وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل: قوله: {وَالْمُحْصَناتُ} إلى قوله: {حَكِيماً}. قال ابن عطية: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ الثالثة: قوله تعالى: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} نصب على المصدر المؤكد، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم. ومعنى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} كتب الله عليكم.وقال الزجاج والكوفيون: هو نصب على الإغراء، أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله. وفيه نظر على ما ذكره أبو علي، فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء، فلا يقال: زيدا عليك، أو زيدا دونك، بل يقال: عليك زيدا ودونك عمرا، وهذا الذي قاله صحيح على أن يكون منصوبا ب {عَلَيْكُمْ}، وأما على تقدير حذف الفعل فيجوز. ويجوز الرفع على معنى هذا كتاب الله وفرضة: وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع {كتب الله عليكم} على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، والمعنى كتب الله عليكم ما قصه من التحريم.وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله.الرابعة: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {وَأُحِلَّ لَكُمْ} ردا على {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ}. الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر، وليس كذلك، فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها، قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».وقال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة، وقد قيل: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها، لأن الله تعالى حرم الجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأختين، أو لان الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد. والصحيح الأول، لأن الكتاب والسنة كالشيء الواحد، فكأنه قال: أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب، وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد عليه السلام. وقول ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة إنما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك، لأن العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه.وفي مصنف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى».وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين. الرواية: «لا يجمع» برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك، وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح. وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة. وقوله: «لا يجمع بين العمتين والخالتين» فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز، فقال: معنى بين العمتين على المجاز، أي بين العمة وبنت أخيها، فقيل لهما: عمتان، كما قيل: سنة العمرين أبي بكر وعمر، قال: وبين الخالتين مثله. قال النحاس: وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله، وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير فائدة، لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكرر الغير فائدة، وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة، وليس كذلك الحديث، لأن الحديث نهى أن يجمع بين العمة والخالة. فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى. قال النحاس: وهذا يخرج على معنى صحيح، يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها، تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الام فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين، فابنة الأب عمة ابنة الابن، وابنة الابن خالة ابنة الأب. وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة الأخرى، وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته، فولد لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى. وأما الجمع بين العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى، وذلك أن يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة الأخرى، فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما ليس في القرآن.الخامسة: وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا، فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل. فقلت له: عمن هذا؟ قال: عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال سفيان الثوري: تفسيره عندنا أن يكون من النسب، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء. قال أبو عمر: وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل. وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة، ثم ورد في بعض الاخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنآن والشرور بسبب الغيرة، فروى ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ذكره أبو محمد الاصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما. ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة، وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها، وسواء كانت بنت عم أو بنت عمة أو بنت خال أو بنت خالة، روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح. وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي عم، ذكره عبد الرزاق. زاد ابن عيينة: فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن، وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده.وفي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن ابنتي العم أيجمع بينهما؟ فقال: ما أعلمه حراما. قيل له: أفتكرهه؟ قال: إن ناسا ليتقونه، قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح. وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة.وقال السدي في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}: يعني النكاح فيما دون الفرج.وقيل: المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم. قتادة: يعني بذلك ملك اليمين خاصة.السادسة: قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} لفظ يجمع التزوج والشراء. و{أَنْ} في موضع نصب بدل من ما، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل أن يكون المعنى لان، أو بأن، فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب. و{مُحْصِنِينَ} نصب على الحال، ومعناه متعففين عن الزنى. {غَيْرَ مُسافِحِينَ} أي غير زانين. والسفاح الزنى، وهو مأخوذ من سفح الماء، أي صبه وسيلانه، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع الدفاف في عرس: «هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر». وقد قيل: إن قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما- ما ذكرناه وهو الإحصان بعقد النكاح، تقديره اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح، فيكون للآية على هذا الوجه عموم. ويحتمل أن يقال: {مُحْصِنِينَ} أي الإحصان صفة لهن، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن، والوجه الأول أولى، لأنه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى، ولان مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن، وذلك خلاف الإجماع.السابعة: قوله تعالى: {بِأَمْوالِكُمْ} أباح الله تعالى الفروج بالأموال ولم يفصل، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة به، لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه. ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا، لأنه ليس فيه تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها، فإن الذي كان يملكه المولى من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط. فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه شيئا، وإنما أتلف به ملكه، لم يكن مهرا. وهذا بين مع قوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ} وذلك أمر يقتضي الإيجاب، وإعطاء العتق لا يصح. وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} وذلك محال في العتق، فلم يبق أن يكون الصداق إلا مالا، لقوله تعالى: {بِأَمْوالِكُمْ} اختلف من قال بذلك في قدر ذلك، فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: {بِأَمْوالِكُمْ} في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح، ويعضده قوله عليه السلام في حديث الموهوبة: «ولو خاتما من حديد». وقوله عليه السلام: «أَنْكِحُوا الْأَيامى»، ثلاثا. قيل: ما العلائق بينهم يا رسول الله؟ قال: «ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك». وقال: أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صداق النساء فقال: «هو ما اصطلح عليه أهلوهم».وروى جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن رجلا أعطى امرأة ملء يديه طعاما كانت به حلالا». أخرجهما الدارقطني في سننه. قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء، أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقا، وهذا قول جمهور أهل العلم. وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن المنذر وغيره. قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به، وأنكح ابنته من عبد الله بن وداعة بدرهمين.وقال ربيعة: يجوز النكاح بدرهم.وقال أبو الزناد: ما تراضى به الأهلون.وقال مالك: لا يكون الصداق أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا. قال بعض أصحابنا في تعليل له: وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد، لأن البضع عضو واليد عضو يستباح بمقدر من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا، فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد. قال أبو عمر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة، فقاس الصداق على قطع اليد، واليد عنده لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق. وقد قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا أبا عبد الله. أي سلكت فيها سبيل أهل العراق. وقد احتج أبو حنيفة بما رواه جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا صداق دون عشرة دراهم» أخرجه الدارقطني.وفي سنده مبشر بن عبيد متروك. وروي عن داود الأودي عن الشعبي عن علي عليه السلام: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم. قال أحمد بن حنبل: لقن غياث بن إبراهيم داود الأودي عن الشعبي عن علي: لا مهر أقل من عشرة دراهم. فصار حديثا.وقال النخعي: أقله أربعون درهما. سعيد بن جبير: خمسون درهما. ابن شبرمة: خمسة دراهم. ورواه الدارقطني عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه: لا مهر أقل من خمسة دراهم.الثامنة: قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} الاستمتاع التلذذ. والأجور المهور، وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل، ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل ذلك. والله أعلم.التاسعة: واختلف العلماء في معنى الآية، فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن كان مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسم. فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد، هل تستحق به مهر المثل، أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا؟ فقال مرة: المهر المسمى، وهو ظاهر مذهبه، وذلك أن ما تراضوا عليه يقين، ومهر المثل اجتهاد، فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه، لأن الأموال لا تستحق بالشك. ووجه قوله: مهر المثل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها». قال ابن خويز منداد: ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن نكاح المتعة وحرمه، ولان الله تعالى قال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك.وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام. وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن} ثم نهى عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين.وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المتعة، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة، ونسخت الأضحية كل ذبح. وعن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث.وروى عطاء عن ابن عباس قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي.العاشرة: واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت، ففي صحيح مسلم عن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. قال أبو حاتم البستي في صحيحه: قولهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا نستخصي» دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظوره لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى عنها عام خيبر، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث، فهي محرمة إلى يوم القيامة.وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة، لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوطاس، ثم حرمت بعد ذلك واستقر الامر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة، لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك.وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها: إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات، فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام.وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام أو طاس. ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر. ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح.قلت: وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم، وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك، رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب، قاله أبو عمر رحمه الله.وفي مصنف أبي داود من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك.وقال عمرو عن الحسن ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها. وروي هذا عن سبرة أيضا، فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت. قال أبو جعفر الطحاوي: كل هؤلاء الذين رووا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر، وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك، فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر، وكذلك روي عن ابن مسعود. فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها، وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة في حجة الوداع، لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم، ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة. ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكرير مثل هذا في مغازيه وفي المواضع الجامعة، ذكر تحريمها في حجة الوداع، لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبه لاحد يدعي تحليلها، ولان أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا.الحادية عشرة: روى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح.قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله تعالى.قلت: هل عليها عدة؟ قال: نعم حيضة.قلت: يتوارثان، قال: لا. قال أبو عمر: لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق.وقال ابن عطية: وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها: لان الولد لا حق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة.قلت: هذا هو المفهوم من عبارة النحاس، فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوما- أو ما أشبه ذلك- على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك، وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام، ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة.الثانية عشرة: وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد للشبهة ويلحق به الولد على قولين، ولكن يعذر ويعاقب. وإذا لحق اليوم الولد في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أبيح، فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح ويفارقه في الأجل والميراث.وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود. وفيما حكاه ضعف، لما ذكرنا. قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها، فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب.وفي رواية أخرى عن مالك: لا يرجم، لأن نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به دون سائر العلماء، وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن أم لا؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء، وهذا ضعيف.وقال أبو بكر الطرطوسي: ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت.وفي قول ابن عباس يقول الشاعر: وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة، وأن المتعة حرام.وقال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلا لا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس.وقال معمر: قال الزهري: ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر: كما تقدم.الثالثة عشرة: قوله تعالى: {أُجُورَهُنَّ} يعم المال وغيره، فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان. وقد اختلف في هذا العلماء، فمنعه مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ. قال ابن شاس: فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم.وقال الشافعي: النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها. فإن طلقها قبل الدخول ففيها للشافعي قولان: أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة، والآخر أن لها نصف مهر مثلها.وقال إسحاق: النكاح جائز. قال أبو الحسن اللخمي: والقول بجواز جميع ذلك أحسن. والإجارة والحج كغير هما من الأموال التي تتملك وتباع وتشترى. وإنما كره ذلك مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا، والإجارة والحج في معنى المؤجل. احتج أهل القول الأول بأن الله تعالى قال: {بِأَمْوالِكُمْ} وتحقيق المال ما تتعلق به الاطماع، ويعد للانتفاع، ومنفعة الرقبة في الإجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس بمال. قال الطحاوي: والأصل المجتمع عليه أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة القرآن سماها، بدرهم لم يجز، لأن الإجارات لا تجوز إلا لاحد معنيين، إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم، وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم، وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها. وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات. وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر أنه لا تملك به الابضاع. والله الموفق. احتج من أجاز ذلك بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: «اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن». في رواية قال: «انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن». قالوا: فقئ هذا دليل على انعقاد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم، وهذا على الظاهر من قوله: «بما معك من القرآن» فإن الباء للعوض، كما تقول: خذ هذا بهذا، أي عوضا منه. وقوله في الرواية الأخرى: «فعلمها» نص في الامر بالتعليم، والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، ولا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن، أي لما حفظه، فتكون الباء بمعنى اللام، فإن الحديث الثاني يصرح بخلافه في قوله: «فعلمها من القرآن». ولا حجة فيما روي عن أبي طلحة أنه خطب أم سليم فقالت: إن أسلم تزوجته فأسلم فتزوجها، فلا يعلم مهر كان أكرم من مهرها، كان مهرها الإسلام فإن ذلك خاص به. وأيضا فإنه لا يصل إليها منه شيء بخلاف التعليم وغيره من المنافع. وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها، على ما يأتي بيانه في سورة القصص. وقد روي من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل من أصحابه: «يا فلان هل تزوجت؟» قال: لا، وليس معي ما أتزوج به. قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟» قال: بلى! قال: «ثلث القرآن، أليس معك آية الكرسي؟» قال: بلى! قال: «ربع القرآن، أليس معك {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟» قال: بلى! قال: «ربع القرآن، أليس معك {إِذا زُلْزِلَتِ}؟» قال: بلى! قال: «ربع القرآن. تزوج تزوج».قلت: وقد أخرج الدارقطني حديث سهل من حديث ابن مسعود، وفيه زيادة تبين، ما احتج به مالك وغيره، وفيه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ينكح هذه؟» فقام ذلك الرجل فقال: أنا يا رسول الله، فقال: «ألك مال؟» قال: لا، يا رسول الله، قال: «فهل تقرأ من القرآن شيئا؟». قال: نعم، سورة البقرة، وسورة المفصل. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها». فتزوجها الرجل على ذلك. وهذا نص- لو صح- في أن التعليم لا يكون صداقا. قال الدارقطني: تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك الحديث. و{فريضة} نصب على المصدر في موضع الحال، أي مفروضة.الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي من زيادة ونقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة. والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول.وقال القائلون بأن الآية في المتعة: هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام، فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا، فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول: زيديني في الأجل أزدك في المهر. فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي.
|